كتبت ليال الاختيار في النهار:


لن اكتب فلسفة نظرية أو سياسية. ولن أخوض في علوم الدبلوماسية ولا الجيوستراتيجيا. هذه كلمات كتبها القلب والعينان ورعشة اليدين،  على أرض بلد اسمه اوكرانيا. حيث كانت زيارتي الاولى. وكانت زيارة ميدانية لبلاد حرب . 

أنت مجنونة! هذا كان الجواب بالإجماع، من كل من عرف ان وجهتي ستكون كييف لاحياء الذكرى السنوية الأولى للحرب الاوكرانية الروسية. معظم الاصدقاء والاهل حاول ثنيي عن الفكرة. فهي أبعد من الخطر في أذهانهم. هي شيء من الموت المحتم. أعترف أن الخوف رافق إصراري. وأقر بأنه كان معي رفيقاً. كان خوفاً من النوع الجميل. ذاك الذي هو خليط من حب حياة وحرص سلامة ودافع عمل ومحرض على شغف النجاح . 

هو الحب إذن، أول ما اعتراني في تلك البلاد الجميلة. بمعمارها وتراثها وأهلها. عند اجتيازي آخر خط فاصل بين السلام والحرب، على الحدود البولونية الأوكرانية، ظننت للوهلة الاولى أنني دخلت في نفق. ظلام قاتم غرقت فيه البلاد بعد الضربات الروسية للبنية التحتية الاوكرانية. أكثر من عشرين ساعة في رحلة أبوكاليبية. بين قطار وسيارة وملجأ إنذار من القصف الصاروخي المتكرر، جعلتني أرى ذاك النفق بلا نهاية. أو أحسبه هو النهاية بالذات. حتى بلغت كييف، عابرة من وارسو الى لفيف ومنها إلى عاصمة البلاد التي أغلقت الحرب كل مطاراتها.  

هنا بين المأساة وأهوال الدمار، تحضر نفسك لسماع اصوات المنددين بالحرب وبالمسؤولين عنها والمسببين لها. تتوقع انتقاداً داخلياً أو مراجعة ذاتية أو خوفاً أو انهزامية أو حتى رأياً آخر... فاذا بك مذهولاً بحقيقة أن واحداً من كل ثلاثة أوكرانيين، يتحدث الروسية. لكن معظمهم يحاول جاهداً التخلص منها، بعدما استيقظت فيه الهوية الاوكرانية إثر الاجتياح الروسي لبلاده . 

التخلص من اللغة الروسية واجب معلن لغالبية الصامدين هنا. واجب ذاتي. لم ينتظر قوانين يقرها البرلمان ولا أنظمة تضعها الحكومة.  يقولون أن جزءاً من مسببات العملية العسكرية اليوم، هو محاولة اجتياح عقلي وعملية تهميش ثقافي ومشروع قهر وصهر فكري  لكل ما هو أوكراني على مدى قرون. اعتبرت روسيا خلالها أن لا شيء اسمه اوكرانيا. وأن كل ما هنا جزء عضوي من فضائها الجغرافي والسياسي والثقافي . 

كان من المفترض ان تهدف العملية الروسية العسكرية الخاصة بشكل اساسي، إلى "تحرير المضطهدين جراء ثقافتهم الروسية من قبل النازيين الجدد"، كما يسميهم الكرملين. فاذا بك تسمع عبارات تأكيد وتكرار كل من تلقيه هنا، بأن "هذا منزلنا وهناك من حاول خلع ابوابه وجدرانه وتهجير اهله.  لذا سنقاتل بكل شراسة حتى النهاية . لم يترك لنا الروس اي خيار سوى المواجهة. نسعى للتخلص من كل ما هو روسي لان اجدادنا قالوا لنا:  اذا اردنا العيش بسلام ورفاهية يجب ان نبتعد عنهم ."

واقعتان تختصران صراع الهوية واللغة في اوكرانيا. الاولى مع سائق السيارة الذي اقلني من مطار بولندا. كان يحاول استخدام غوغل للتواصل معي باللغة الانكليزية. بدا مربكاً في التعبير والترجمة والتعامل مع محرك البحث. حتى سألته عن السبب. فقال بعزم:  لانني احاول جاهدا التكلم بالاوكرانية لا بالروسية. وانا لا اتقنها جيدا. مع انني اوكراني. وأجهد للتخلص من اي شيء يربطني بتلك اللغة  ودولتها . 

الواقعة الثانية، مقولة شائعة في اوكرانيا يرددها الناس لاقاربهم في القرم والمناطق الموالية لروسيا: تكلموا بالاوكرانية حتى يأتي من ينقذكم ويسقط شعارات موسكو . 

هي وقائع منسية عن كثيرين حول أوكرانيا. ولو كان هنا من  ينادي بالسلام وانهاء الحرب ووقف اراقة الدماء.  ومن يردد  ان بين روسيا واوكرانيا الكثير من التداخل وأنهما شعب سلافي واحد. لكن الكل متفق ان لا تنازل عن ارض ولا عن سكان شعب ولا في السياسة  . 

ولكن المفاجئ وربما الأخطر، ان معظم الاوكرانيين مقتنع بأنها ليست حرب بوتين وحده ضد أوكرانيا وخلفها الغرب. بل هي حرب بوتين ومعه كل روسيا وخلفهما كل الشعب الروسي الذي لم يعد يرى او يسمع، بحسبهم . يقولون ان بوتين غسل عقولهم حتى أنهم لم يعودوا يرزن في أهلهم في اوكرانيا إلا خونة .  

المصدر :